الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»
.تفسير الآية رقم (82): {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (82)}{واسئل القرية التي كُنَّا فِيهَا} يعنون كما روى عن ابن عباس. وقتادة. والحسن مصر، وقيل: قرية بقربها لحقهم المنادى بها، والأول: ظاهر على القول بأن المفتش لهم يوسف عليه السلام والثاني: الظاهر على القول بأنه المؤذن، وسؤال القرية عبارة عن سؤال أهلها إما مجازًا في القرية لإطلاقها عليها بعلاقة الحالية والمحلية أو في النسبة أو يقدر فيه مضاف وهو مجاز أيضًا عند سيبويه وجماعة. وفي المحصول وغيره أن الإضمار والمجاز متباينان ليس أحدهما قسمًا من الآخر والأكثرون على المقابلة، وأيًا ما كان فالمسؤول عنه محذوف للعلم به، وحاصل المعنى أرسل من تثق به إلى أهل القرية واسؤلهم عن القصة {والعير التي أَقْبَلْنَا فِيهَا} أي أصحابها الذين توجهنا فيهم وكنا معهم فإن القصة معروفة فيما بينهم وكانوا قومًا من كنعان من جيران يعقوب عليه السلام، وقيل: من أهل صنعاء، والكلام هنا في التجوز والإضمار كالكلام سابقًا.وقيل: لا تجوز ولا إضمار في الموضعين والمقصود إحالة تحقيق الحال والإطلاع على كنه القصة على السؤال من الجمادات والبهائم أنفسها بناء على أنه عليه السلام نبي فلا يبعد أن تنطق وتخبره بذلك على خرق العادة. وتعقب بأنه مما لا ينبغي أن يكون مرادًا ولا يقتضيه المقام لأنه ليس بصدد إظهار المعجزة، وقال بعض الأجلة: الأول إبقاء {القرية والعير} على ظاهرهما وعدم إضمار مضاف إليهما ويكون الكلام مبنيًا على دعوى ظهور الأمر بحيث أن الجمادات والبهائم قد علمت به وقد شاع مثل ذلك في الكلام قديمًا وحديثًا ومنه قول ابن الدمينة:وقوله: وقوله: ولا يخفى أن مثل هذا لا يخلو عن ارتكاب مجاز. نعم هو معنى لطيف بيد أن الجمهور على خلافه وأكثرهم على اعتبار مجاز الحذف {وِإِنَّا لصادقون} فيما أخبرناك به، وليس المراد إثبات صدقهم بما ذكره حتى يكون مصادرة بل تأكيد صدقهم بما يفيد ذلك من الاسمية وإن واللام وهو مراد من قال: إنه تأكيد في محل القسم، ويحتمل على ما قيل أن يريد أن هنا قسمًا مقدرًا، وقيل: المراد الإثبات ولا مصادرة على معنى أنا قوم عادتنا الصدق فلا يكون ما أخبرناك به كذبًا ولا نظنك في مرية من عدم قبوله. .تفسير الآية رقم (83): {قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (83)}{قَالَ} أي أبوهم عليه السلام وهو استئناف مبنى على سؤال نشأ مما سبق فكأنه قيل: فماذا كان عند قول ذلك القائل للإخوة ما قال؟ فقيل: قال أبوهم عندما رجعوا إليه فقالوا له ما قالوا: {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا} وإنما حذف للإيذان بأن مسارعتهم إلى قبول كلام ذلك القائل ورجوعهم به إلى أبيهم أمر مسلم غني عن البيان وإنما المحتاج إليه جوابه. يروى أنهم لما عزموا على الرجوع إلى أبيهم قال لهم يوسف عليه السلام: إذا أتيتم أباكم فاقرؤا عليه السلام وقولوا له: إن ملك مصر يدعو لك أن لا تموت حتى ترى ولدك يوسف ليعلم أن في أرض مصر صديقين مثله، فساروا حتى وصلوا إليه فأخبروه بجميع ما كان فبكى وقال ما قال، {وبل} للإضراب وهو على ما قيل إضراب لا عن صريح كلامهم فإنهم صادقون فيه بل عما يتضمنه من ادعاء البراءة عن التسبب فيما نزل به وأنه لم يصدر عنهم ما أدى إلى ذلك من قول أو فعل كأنه لم يكن الأمر كذلك بل زينت وسهلت لكم أنفسكم أمرًا من الأمور فأتيتموه يريد بذلك فتياهم بأخذ السارق بسرقته وليس ذلك من دين الملك.وقال أبو حيان إن هنا كلامًا محذوفًا وقع الإضراب عنه والتقدير ليس حقيقة كما أخبرتم بل سولت إلخ وهو عند ابن عطية وادعى أنه الظاهر على حد ما قال في قصة يوسف عليه السلام ظن سوء بهم خلا أنه عليه السلام صدق ظنه هناك ولم يتحقق هنا. وذكر ابن المنير في توجيه هذا القول هاهنا مع أنهم لم يتعمدوا في حق بنيامين سوءا ولا أخبروا اباهم إلا بالواقع على جليته وما تركوه صر إلا مغلوبين عن استصحابه أنهم كانوا عند أبيهم عليه السلام حينئذ متهمين وهم قمن باتهامه لما أسلفوه في حق يوسف عليه السلام وقامت عنده قرينة تؤكد التهمة وتقويها وهو أخذ الملك له في السرقة ولم يكن ذلك إلا من دينه لا من دينه ولا من دين غيره من الناس فظن أنهم الذين أفتوه بذلك بعد ظهور السرقة التي ذكروها تعمدًا ليتخلف دونهم، واتهمام من هو بحيث يتطرق إليه التهمة لا جرح فيه لاسيما فيما يرجع إلى الوالد مع الولد، ثم قال: ويحتمل أن يكون الوجه الذي سوغ له هذا القول في حقهم أنهم جعلوا مجرد وجود الصواع في رحل من يوجد في رحله سرقة من غير أن يحيلوا الحكم على ثبوت كونه سارقًا بوجه معلوم، وهذا في شرعنا لا يثبت السرقة على من ادعيت عليه فإن كان في شرعهم أيضًا كذلك ففي عدم تحرير الفتوى إشعار بأنهم كانوا حراصًا على أخذه وهو من التسويل وإن اقتضى ذلك في شرعهم فالعمدة على الجواب الأول هذا، والتنوين في {لَكَ أمْرًا} للتعظيم أي أمرًا عظيمًا {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} أي فأمري ذلك أو فصبر جميل أجمل وقد تقدم تمام الكلام فيه فتذكر.{عَسَى الله أَن يَأْتِيَنِى بِهِمْ جَمِيعًا} بيوسف وأخيه بنيامين والمتوقف صر {إِنَّهُ هُوَ العليم} بحالي وحالهم {الحكيم} الذي يبتلى ويرفع البلاء حسب الحكمة البالغة، قيل: إنما ترجى عليه السلام للرؤية التي رآها يوسف عليه السلام فكان ينتظرها ويحسن ظنه بالله تعالى لاسيما بعد أن بلغ الشظاظ الوركين وجاوز الحزام الطبيين فإنه قد جرت سنته تعالى أن الشدة إذا تناهت يجعل وراءها فرجًا عظيمًا، وانضم إلى ذلك ماأخبر به عن ملك مصر أنه يدعو له أن لا يموت حتى يرى ولده..تفسير الآية رقم (84): {وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84)}{وَتَوَلَّى} أي أعرض {عَنْهُمْ} كراهة لما جاؤا به {وَقَالَ يَا أسَفى عَلَى يُوسُفَ} الأسف أشد الحزن على ما فات، والظاهر أنه عليه السلام أضافه إلى نفسه، والألف بدل من ياء المتكلم للتخفيف، والمعنى يا أسفى تعال فهذا أوانك، وقيل: الألف ألف الندبة والهاء محذوفة والمعول عليه الأول، وإنما تأسف على يوسف مع أن الحادث مصيبة أخوية لأن رزأه كان قاعدة الإرزاء عنده وإن تقادم عهده أخذًا جامع قلبه لا ينساه ولا يزول عن فكره أبدًا:ولا يرد أن هذا مناف لمنصب النبوة إذ يقتضي ذلك معرفة الله تعالى ومن عرفه سبحانه أحبه ومن أحبه لم يتفرغ قلبه لحب ما سواه لما قيل: إن هذه محبة طبيعية ولا تأبى الاجتماع مع حبه تعالى، وقال الإمام: إن مثل هذه المحبة الشديدة تزيل عن القلب الخواطر ويكون صاحبها كثير الرجوع إليه تعالى كثير الدعاء والتضرع فيصير ذلك سببًا لكمال الاستغراق، وسيأتي إن شاء الله تعالى ما للصوفية قدس الله تعالى أسرارهم في هذا المقام في باب الإشارة، وقيل: لأنه عليه السلام كان واثقًا بحياتها عالمًا كانهما طامعًا بإيابهما وأما يوسف فلم يكن في شأنه ما يحرك سلسلة رجائه سوى رحمة الله تعالى وفضله وفيه بحث. وأخرج الطبراني وابن مردوية والبيهقي في شعب الإيمان عن سعيد بن جبير لم تعط أمة من الأمم {إنا لله وإنا إليه راجعون} [البقرة: 156] إلا أمة محمد صلى الله عليه وسلم أي لم يعلموه ولم يوفقوا له عند نزول المصيبة بهم، ألا يرى إلى يعقوب عليه السلام حين أصابه ما أصابه لم يسترجع وقال ما قال، وفي {أسفا} و{يوسف} تجنيس نفيس من غير تكلف وخو مما يزيد الكلام الجليل بهجة.{وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْن} أي بسببه وهو في الحقيقة سبب للبكاء والبكاء سبب لابيضاض عينه فإن العبرة إذا كثرت محقت سواد العين وقلبته إلى بياض كدر فأقيم سبب السبب مقامه لظهوره، والابيضاض قيل إنه كناية عن العمى فيكون قد ذهب بصره عليه السلام بالكلية واستظهره أبو حيان لقوله تعالى: {فارتد بصيرًا} [يوسف: 96] وهو يقابل بالأعمى، وقيل: ليس كناية عن ذلك والمراد من الآية أنه عليه السلام صارت في عينيه غشاوة بيضتهما وكان عليه السلام يدرك إدراكًا ضعبفًا، وقد تقدم الكلام في حكم العمى بالنسبة إلى الأنبياء عليهم السلام، وكان الحسن ممن يرى جوازه. فقد اخرج عبالله بن أحمد في «زوائده» وابن جرير وأبو الشيخ عنه قال: كان منذ خرج يوسف من عند يعقوب عليهما السلام إلى يوم رجع ثمانون سنة لم يفارق الحزن قلبه ودموعه تجري على خديه ولم يزل يبكي حتى ذهب بصره وما على الأرض يومئذ والله أكرم على الله تعالى منه، والظاهر أنه عليه السلام لم يحدث له هذا الأمر عند الحادث الأخير، ويدل عليه ما أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم عن ليث بن أبي سليم أن جبريل عليه السلام دخل على يوسف عليه السلام في السجن فعرفه فقال له أيها الملك الكريم على ربه هل لك علم بيعقوب؟ قال: نعم.قال: ما فعل؟ قال: ابيضت عيناه من الحزن عليك قال: فما بلغ من الحزن؟ قال: حزن سبعين مشكلة قال: هل له على ذلك من أجر؟ قال: نعم أجر مائة شهيد وقرأ ابن عباس ومجاهد {من الحزن} بفتح الحاء والزاي وقرأ قتادة بضمهما.واستدل بالآية على جواز التأسف والكاء عند النوائب، ولعل الكف عن أمثال ذلك لا يدخل تحت التكليف فإنه قل من يملك نفسه عند الشدائد.وقد روى الشيخان من حديث أنس أنه صلى الله عليه وسلم بكى على ولده إبراهيم وقال: «إن العين تدمع والقلب يخشع ولا نقول إلا ما يرضي ربنا وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون» وإنما المنهي عنه ما يفعله الجهلة من النياحة ولطم الخدود والصدور وشق الجيوب وتمزيق الثياب. ورويا أيضًا من حديث أسامة أنه صلى الله عليه وسلم رفع إليه صبي لبعض بناته يجود بنفسه فأقعده في حجره ونفسه تتقعقع كأنها في شن ففاضت عيناه عليه الصلاة والسلام فقال سعد: يا رسول الله ما هذا؟ فقال: هذه رحمة جعلها الله تعالى فيمن شاء من عباده وإنما يرحم الله تعالى من عباده الرحماء. وفي الكشاف أنه قيل له عليه الصلاة والسلام: تبكي وقد نهيتنا عن البكاء؟ قال. ما نهيتكم عن البكاء وإنما نهيتكم عن صوتين أحمقين صوت عند الفرح وصوت عند الترح. وعن الحسن أنه بكى على ولد أو غيره فقيل له في ذلك فقال: ما رأيت الله تعالى جعل الحزن عارًا على يعقوب عليه السلام.{فَهُوَ كَظيمٌ} أي مملوء من الغيظ على أولاده ممسك له في قلبه لا يظهره، وقيل: مملوء من الحزن ممسك له لا يبديه، وهو من كظم السقاء إذا شده بعده ملئه، ففعيل عنى مفعول أي مكظوم فهو كما جاء في يونس عليه السلام {إذ نادى وهو مكظوم} [القلم: 48] ويجوز أن يكون عنى فاعل كقوله تعالى: {والكاظمين} [آل عمران: 134] من كظم الغيظ إذا تجرعه أي شديد التجرع للغيظ أو الحزن لأنه لم يشكه إلى أحد قط، وأصله من كظم البعير جرته إذا ردها في جوفه فكأنه عليه السلام يرد ذلك في جوفه مرة بعد أخرى من غير أن يطلع أحدًا عليه. وفي الكلام من الاستعارة على الوجهين ما لا يخفى، ورجح الأخير منهما بأن فعيلًا عنى فاعل مطرد ولا كذلك فعيلًا عنى مفعول. .تفسير الآية رقم (85): {قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ (85)}{قَالُواْ} أي الاخوة وقيل غيرهم من أتباعه عليهم السلام {تالله} أي لا تفتأ ولا تزال {تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ} تفجعًا عليه فحذف حرف النفي كما في قوله:لأن القسم إذا لم يكن معه علامة الإثبات كان على النفي وعلامة الإثبات هي اللام ونون التأكيد وهما يلزمان جواب القسم المثبت فإذا لم يذكرا دل على أنه منفي لأن المنفى لا يقارنهما ولو كان المقصود هاهنا الإثبات لقيل لتفتأن، ولزوم اللام والنون مذهب البصريين، وقال الكوفيون. والفارسي: يجوز الاقتصار على أحدهما وجاء الحذف فيما إذا كان الفعل حالا كقراءة ابن كثير {لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ القيامة} [القيامة: 1] وقوله: ويتفرع على هذا مسألة فقهية وهي أنه إذا قال: والله أقوم يحنث إذا قام وإن لم يقم لا، ولا فرق بين كون القائل عالمًا بالعربية أولا على ما أفتي به خير الدين الرملي، وذكر أن الحلف بالطلاق كذلك فلو قال: علي الطلاق بالثلاث تقومين الآن تطلق إن قامت ولا تطلق إن لم تقم، وهذه المسألة مهمة لا بأس بتحقيق الحق فيها وإن أدّى إلى الخروج عما نحن بصدده فنقول: قال غير واحد: إن العوام لو أسقطوا اللام والنون في جواب القسم المثبت المستقبل فقال أحدهم: والله أقوم مثلًا لا يحنث بعدم القيام فلا كفارة عليه، وتعقبه المقدسي بأنه ينبغي أن تلزمهم الكفارة لتعارفهم الحلف كذلك، ويؤيده ما في الظهيرية أنه لو سكن الهاء أو نصب في بالله يكون يمينًا مع أن العرب ما نطقت بغير الجر، وقال أيضًا: أنه ينبغي أن يكون ذلك يمينًا وإن خلا من اللام والنون، ويدل عليه قوله في الولوالجية: سبحان الله أفعل لا إله إلا الله أفعل كذا ليس بيمين إلا أن ينويه، واعترضه الخير الرملي بأن ما نقله لا يدل لمدعاه، أما الأول فلأنه تغيير إعراب لا يمنع المعنى الموضوع فلا يضر التسكين والرفع والنصب لما تقرر من أن اللحن لا يمنع الانعقاد، وأما الثاني فلأنه ليس من المتنازع فيه إذ هو الإثبات والنفي لا أنه يمين، وقد نقل ما ذكرناه عن المذهب والنقل يجب اتباعه، ونظر فيه.أما أولا فبأن اللحن كما في المصباح وغيره الخطأ في العربية، وأما ثانيًا فبأن ما في الولوالجية من المتنازع فيه فإنه أتى بالفعل المضارع مجردًا من اللام والنون وجعله يمينًا مع النية ولو كان على النفي لوجب أن يقال: إنه مع النية يمين على عدم الفعل كما لا يخفى، وإنما اشترط في ذلك النية لكونه غير متعارف.وقال الفاضل الحلبي: إن بحث المقدسي وجيه، والقول بأنه يصادم المنقول يجاب عنه بأن المنقول في المذهب كان على عرف صدر الإسلام قبل أن تتغير اللغة، وأما الآن فلا يأتون باللام والنون في مثبت القسم أصلًا ويفرقون بين الإثبات والنفي بوجود لا ولا وجودها، وما اصطلاحهم على هذا إلا كاصطلاح الفرس ونحوهم في أيمانهم وغيرها اه، ويؤيد هذا ما ذكره العلامة قاسم وغيره من أنه يحمل كلام كل عاقد وحالف وواقف على عرفه وعادته سواء وافق كلام العرب أم لا، ومثله في الفتح، وقد فرق النحاة بين بلى ونعم في الجواب أن بلى لا يجاب ما بعد النفي ونعم للتصديق فإذا قيل: ما قام زيد فإن قلت: بلى كان المعنى قد قام وإن نعم كان ما قام، ونقل في شرح المنار عن التحقيق أن المعتبر في أحكام الشرع العرف حتى يقام كل واحد منهما مقام الآخر، ومثله في التلويح، وقول الحيط والحلف بالعربية أن يقول في الإثبات والله لأفعلن إلى آخر ما قال بيان للحكم على قواعد العربية، وعرف العرب وعادتهم الخالية عن اللحن وكلام الناس اليوم إلا ما ندر خارج عن هاتيك القواعد فهو لغة اصطلاحية لهم كسائر اللغات الأعجمية التي تصرف فيها أهلها بما تصرفوا فلا يعاملون بغير لغاتهم وقصدهم إلا من التزم منهم الإعراب أو قصد المعنى فينبغي أن يدين، ومن هنا قال السائحاني: إن أيماننا الآن لا تتوقف على تأكيد فقد وضعناها نحن وضعًا جديدًا واصطلحنا عليها اصطلاحًا حادثًا وتعارفناها تعارفًا مشهورًا فيجب معاملتنا على قدر عقولنا ونياتنا كما أوقع المتأخرون الطلاق بعلى الطلاق ومن لم يدر بعرف أهل زمانه فهو جاهل اه، ونظير هذا ما قالوه: من أنه لو أسقطت الفاء الرابطة لجواب الشرط فهو تنجيز لا تعليق حتى لو قال: إن دخلت الدار أنت طالق تطلق في الحال وهو مبني على قواعد العربية أيضًا وهو خلاف المتعارف الآن فينبغي بناؤه على العرف فيكون تعليقًا وهو المروى عن أبي يوسف:وفي البحر أن الخلاف مبني على جواز حذفها اختيارًا وعدمه فأجازه أهل الكوفة وعليه فرع أبو يوسف ومنعه أهل البصرة وعليه تفرع المذهب. وفي سرح نظم الكنز للمقدسي أنه ينبغي ترجيح قول أبي يوسف لكثرة حذف الفاء في الفصيح ولقولهم: العوام لا يعتبر منهم اللحن في قولهم: أنت واحدة بالنصب الذي لم يقل به أحد اه هذا ثم ان ما ذكر انما هو في القسم بخلاف التعليق وهو وان سمى عند الفقهاء حلفًا ويمينًا لكنه لا يسمى قسمًا فإن القسم خاص باليمين بالله تعالى كما صرح به القهستاني فلا يجري فيه اشتراط اللام والنون في المثبت منه لا عند الفقهاء ولا عند اللغويين، ومنه الحرام يلزمني وعلى الطلاق لا أفعل كذا فإنه يراد به في العرف ان فعلت كذا فهي طالق فيجب امضائه عليهم كما صرح به في الفتح وغيره قال الحلبي: وبهذا يندفع ما توهمه بعض الأفاضل من أن في قول القائل: على الطلاق أجيء اليوم ان جاء في اليوم وقع الطلاق وإلا فلا لعدم اللام والنون.وأنت خبير بأن النحاة إنما اشترطوا ذلك في جواب القسم المثبت لا في جواب الشرط؛ وكيف يسوغ لعاقل فاضل أن يقول ان إن قام زيد أقم على أن أجيء ليس جواب الشرط بل هو فعل الشرط لأن المعنى إن لم أجئ اليوم فانت طالق، وقد وقع هذا الوهم لكثير من المفتين كالخير الرملي وغيره، وقال السيد أحمد الحموي في تذكرته الكبرى: رفع إلى سؤال صورته رجل اغتلظ من ولد زوجته فقال: على الطلاق بالثلاث إني أصبح أشتكيك من النقيب فلما أصبح تركه ولم يشتكه ومكث مدة فهل والحالة هذه يقع عليه الطلاق أم لا؟ الجواب إذا ترك شكايتة ومضت مدة بعد حلفه لا يقع عليه الطلاق لأن الفعل المذكور وقع في جواب اليمين وهو مثبت فيقدر النفي حيت لم يؤكد ثم قال: فأحببت أنا بعد الحمد لله تعالى ما أفتي به هذا المجيب من عدم وقوع الطلاق معللا بما ذكر فمنبئ عن فرط جهله وحمقه وكثرة مجازفته في الدين وخرقه إذ ذاك في الفعل إذا وقع جوابًا للقسم بالله تعالى نحو تفتأ لا في جواب اليمين عنى التعليق بما يشق من طلاق وعتاق ونحوهما وحينئذ إذا أصبح الحالف ولم يشتكه وقع عليه الطلاق الثلاث وبانت زوجته منه بينونة كبرى اه. ولنعم ما قال. ولله تعالى در القائل: وفتئ هذه من أخوات كان الناقصة كما أشرنا إليه ويقال فيها: فتأ كضرب وأفتأ كأكرم، وزعم ابن مالك أنه تكون عنى سكن وفتر فتكون تامة وعلى ذلك جاء تفسير مجاهد للا تفتأ بلا تفتر عن حبه، وأوله الزمخشري بأنه عليه الرحمة جعل الفتوء والفتور أخوين أي متلازمين لا أنه عناه فإن الذي عنى فتر وسكن هو فثأ بالمثلثة كما في الصحاح من فثأت القدر إذا سكن غليانها والرجل إذا سكن غضبه، ومن هنا خطأ أبو حيان ابن مالك فيما زعمه وادعى أنه من التصحيف. وتعقب بأن الأمر ليس كما قاله فإن ابن مالك نقله عن الفراء وقد صرح به السر قسطى ولا يمتنع اتفاق مادتين في معنى وهو كثير، وقد جمع ذلك ابن مالك في كتابل سماه ما اخلتف اعجامه واتفق افهامه ونقله عنه صاحب القاموس.واستدل بالآية على جواز الحلف بغلبة الظن، وقيل: إنهم علموا ذلك منه ولكنهم نزلوه منزلة المنكر فلذا أكدوه بالقسم أي نقسم بالله تعالى لا تزال ذاكر يوسف متفجعًا عليه {يُوسُفَ حتى تَكُونَ حَرَضًا} مريضًا مسفيًا على الهلاك، وقيل: الحرض من اذابه هم أو مرض وجعله مهزولًا نحيفًا، وهو في الأصل مصدر حرض فهو حرض بكسر الراء، وجاء أحرضني كما في قوله: ولكونه كذلك في الأصل لا يؤنث ولا يثني ولا يجمع لأن المصدر يطلق على القليل والكثير، وقال ابن إسحق: الحرض الفاسد الذي لا عقل له. وقرئ {حَرَضًا} بفتح الحاء وكسر الراء.وقرأ الحسن البصري {حَرَضًا} بضمتين ونحوه من الصفات رجل جنب وغرب {أَوْ تَكُونَ مِنَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ} قيل: يحتمل أن تكون عنى بل أو عنى إلى، فلا يرد عليه أن حق هذا التقديم على {حتى تَكُونَ حَرَضًا} فإن كانت للترديد فهي لمنع الخلو والتقديم على ترتيب الوجود كما قيل في قوله تعالى: {لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ} [البقرة: 255] أو لأنه أكثر وقوعًا.
|